فن

«قناع بلون السماء»: دروس فلسطينية في البحث عن الهوية

مراجعة الرواية الفلسطينية «قناع بلون السماء» للروائي الأسير باسم خندقجي الفائزة بجائزة البوكر لعام 2024.

future قناع بلون السماء

تحت سقف غرفته الضيقة في حبسه بسجون الاحتلال الإسرائيلي اختمر قرار باسم خندقجي بكتابة رواية جديدة، وبين جدرانها بدأت الكتابة بوصفها وسيلة أخيرة للنجاة، البوح، توثيق كافة الأفكار التي تشغل بال خندقجي عن سؤال الوطن والانتماء، يتضفّر سؤال الهوية الفلسطينية ويشتبك مع الواقع الذي قذف به في السجن، وسؤال التاريخ الذي سلب من أجيال بأكملها الوصول لحقيقة الأشياء. على أوراق المناديل كتب باسم بخط يده سطور روايته، هرّب مناديله، وتحولت المناديل إلى رواية نمسكها بأيدينا الآن ونقرؤها، وها هي تحصل على جائزة البوكر العربية في دورتها السابعة عشرة، وهذه سيرة ذاتية مختصرة جدًا لرحلة كتابة رواية «قناع بلون السماء».

عبر زمنين سرديين وحكايتين متوازيتين تمضي الرواية مع بطلها الرئيس اللاجئ الفلسطيني نور الشهدي الذي تضعه الصدفة للمضي قدمًا بهوية إسرائيلية لشخص يشبهه يدعى «أور شابيرا»، خدمته الصدفة ليبدأ رحلة من البحث والتنقيب التاريخي في أحد المواقع الأثرية بالأراضي المحتلة ليتمكن من كتابة روايته التي اختار أن يكون موضوعها السيدة مريم المجدلية، رحلة يكتشف معها أن كل الصعاب التي تواجهه تزول بسهولة طالما أن هويته زرقاء، والأزرق هو لون الهوية الإسرائيلية، وهو ما يشير له عنوان الرواية «لون السماء». تبدو الصدفة حيلة سهلة في الكتابة الإبداعية -بل وتضعفها- لتتولد منها رحلة البطل، لكنها الحيلة الوحيدة التي تضع البطل على أولى محطات رحلته التي لم يختر فيها السعي وراء الهوية الزرقاء، لكنها جاءته بالصدفة تمامًا.

متون التاريخ وهوامشه

تبدو رحلة البحث عن مريم المجدلية، والرسائل والتسجيلات الصوتية التي يراسل بها نور صديقه مراد في سجنه حكاية بعيدة عما ننتظره من رواية عن الهوية الفلسطينية، لكن الأمر ليس ببعيد تمامًا، بل إنه اختصار للفكرة التي يطرحها الراوي في التناقض بين الصديقين نور ومراد، فالأخير سجين -مثل الكاتب- مؤمن بالاشتباك مع محددات الاحتلال السردية والفكرية والبنية الكولونيالية للصهيونية، بينما نور شغوف بالتاريخ، يحفر فيه ليشتبك مع الحاضر، وكلاهما طريقان لا يتقاطعان ولكنهما يمضيان بالتوازي صوب الاشتباك. 

في الخط البحثي الذي يدون فيه نور ملاحظاته عن مريم المجدلية يحضر سؤال التاريخ في الرواية، يسأل نور عن سبب الحضور الباهت لمريم المجدلية في متن التاريخ وهامشه، ثم ينبش في حقيقة أنه تم إقصاؤها من الأناجيل عن عمد، وأنها كتبت إنجيلها الخاص لكنه لم يصل إلى صدارة المتن، تشتبك تساؤلات نور مع سؤاله عما كتبه دان براون عن مريم المجدلية: «لماذا ينتزع كاتب أجنبي المجدلية من سياقها التاريخي الجغرافي الفلسطيني ليلقي بها في مهاوي الغرب؟ لماذا؟». هكذا يعيدنا سؤال تاريخية المجدلية أمام سؤال تاريخ الوطن وسرديته، ويدفعنا للتفكير من زاوية أخرى: أليس تاريخ المجدلية هو تاريخ فلسطين؟ وأن كل التشوهات والتزييف الذي تعرضت له في كتابة سيرتها التاريخية هو أيضًا التزييف التاريخي نفسه الذي تتعرض له فلسطين؟!

تضعنا الرواية أمام السرديات الكبرى عبر تفكيكها إلى سرديات صغرى، والوصول إلى عمق معنى الهوية لن يفككه سوى بطل بهوية فلسطينية حقيقية ينتحل هوية أخرى إسرائيلية مزيفة، وأن البحث عن جذور شخصية تاريخية أثارت الجدل وتم تشويه حكايتها في الرواية اليهودية التاريخية هي جزء آخر من تفكيك الفكرة الكبرى لسؤال التاريخ المزيف، نحن إذًا أمام رواية تبني بوعي شديد حبكتها وفصولها على الاشتباك الفكري والثقافي مع المحتل عبر حكاية لا تنفصل أفكار كاتبها عنها، حكاية أدبية تعيد طرح الأسئلة -بشكلها المباشر وغير المباشر- التي يراوغها الواقع ويتهرب منها، والكاتب اختار أن يضيّع هوية بطله ليخوض رحلتين، واحدة داخلية والأخرى خارجية، تمتزج فيها كل شكوكه وبحثه عن أصل الحكاية الأولى، وأصل هويته.

«أنا مشتبك يا صديقي.. مشتبك يوميًا مع هذا الواقع الذي أعمل به.. في القدس يا مراد أنا أتجرّع أكاذيب وأساطير ملعوبًا بأسفل سافلها.. أتجرعها ثم ألفظها بمناعتي وحصانتي وعزمي على مواجهة الاغتصاب التاريخي الذي نتعرض له منذ نكبتنا على الأقل».

يمرر الكاتب مشاهد من داخل الأراضي المحتلة لأكاذيب يبنيها المحتل على أرضه ليخلق لنفسه تاريخًا مزيفًا، يسرد نور مشهد دخوله مستوطنة مشمار هعميق ويدون رؤيته للنصب التذكاري لضحايا الهولوكوست من الأطفال، يثير هذا التذكار تعاطفًا ضمنيًا ولحظيًا لمن يراه، لكن ترى ماذا يستقر أسفل هذا التذكار؟ وحده نور، الفلسطيني ذو الهوية الأصلية لهذه الأرض، يعرف أن هذا التذكار بني على أنقاض وقبور قرية أبو شوشة المنكوبة والمنسية في صفحات التاريخ، التي لا يعرف العالم جذورها حتمًا، ولا أسماء وحكايات سكانها الأصليين، ويتعمد المحتل محوها باستعطاف أطفال الهولوكوست، فتنتصر مأساة مستوردة ومستعارة على حساب مأساة منسية تمامًا.

يختم نور ملاحظته التاريخية بسؤال: «هل المحرقة هي التي جاءت بالدولة الصهيونية؟ وهل تخلق المأساة مأساة أخرى؟».

أقنعة التناص 

ليس السؤال السابق هو الوحيد في أسئلة الرواية التي تبنى -كما ذكرت مسبقًا- على تضفير الحكاية الروائية بالأفكار، ولكن ثمة أفكار أخرى يأخذ منها النص الروائي خيوطًا تغزل من الرواية وأفكارها جانبًا موازيًا، يجتمع هذا في الكتب والروايات التي يشير إليها باسم خندقجي في نصه، منها رواية «أولاد الغيتو» لإلياس خوي، كتاب «فانون والمخيلة ما بعد الكولونيالية» لنايجل سي، رواية «شيفرة دافنشي» لدان براون، وكتاب «الدم المقدس والكأس المقدسة» لميشيل بيجنت، «الثقافة والإمبريالية» لإدوارد سعيد، «ألغاز الإنجيل» لفراس السواح، وكتاب «بشرة سوداء أقنعة بيضاء» لفرانز فانون، واستحضار كتب بعينها في نسيج الرواية وأفكارها هو ما يسمى التناص الأدبي.

لم تختلف الكتب المتناصة عن أفكار الرواية حتى لو كانت تعارضها، فمثلاً شيفرة دافنشي تذكر في أكثر من موضوع للمقاربة بينها والرواية التي يريد البطل نور كتابتها، وهي الشعلة الأولى التي ألهمته للكتابة عن مريم المجدلية، على الرغم من أن البطل يتعارض معها. أما أقنعة فرانز فانون تتماس مع القناع الذي سيرتديه نور في منتصف الرواية، قناع إسرائيلي لرجل فلسطيني، والقناع هنا ستار للولوج إلى العالم الكولونيالي، أما أقنعة فانون البيضاء التي كرس لها كتابه تتحدث بالأساس عن الاستعمار وكيف يؤثر في نظرة المستَعمرين «السود» لأنفسهم، يتغذون بشعور قوي بالدونية وبأنهم بحاجة لأن يكونوا «بيضًا» أو يشبهوهم، ومن هنا تزرع المجتمعات المستعمرة نماذج لأشخاص يتعايشون بالأقنعة، سود بقناع أبيض ليتماهوا مع هوية المستعمر ويتخلوا بالتدريج عن هويتهم، وهذا «القناع» هو حيلة بطل الرواية التي وظفها بطريقة إيجابية ليندمج ويستغل الفرصة ليحصل على مراده من امتيازات القناع الأزرق.

الحجرات.. الأماكن

تتنقل أحداث الرواية بين المخيم، القدس، مدينة البيرة، والمستوطنة، ويستوقفني في بداية الفصل الأول للرواية وصف الراوي بأنه «ليس ثمّة معنى لاسم المخيم الفلسطيني إلا عندما ترتكب فيه المجزرة» وهو ما يستدعي في ذاكرتنا كل المخيمات التي نعرفها جيدًا، ونتأكد بالفعل أننا لا نعرفها إلا لأن حربًا كبرى حدثت فيها وأبادتها، ومن ذاكرتي الشخصية أستدعي «مخيم جنين، طولكرم، دير البلح، خان يونس، رفح» وحتى المخيمات خارج فلسطين مثل «تل الزعتر، شاتيلا، عين الحلوة». يضع البطل يده على جرح كبير ويفرق ما بين الأماكن، مخيمات المجازر والمخيمات الأخرى التي لم يحدث فيها شيء، الأولى سيذكرها التاريخ، والثانية سينساها.

لكن بعيدًا عن التنقل بين الأحياء والمدن، ثمة مكان رئيس يرافق نور طيلة الرواية، كأنه قدره، منذ طفولته وحتى دخوله بالهوية الزرقاء، يبقى دائمًا أطول وقت ممكن في حجرات تسمح له بالخلو التام بنفسه، وبالوحدة أيضًا.

«حسنًا.. هأنذا في حجرة أخرى، لأتأكد الآن أكثر من أي وقت مضى أن حياتي كلها حجرات».

وفي الحجرات تتشكل أغلب فصول الرواية وينتج عنها حوارات البطل الداخلية -المونولوجات- وأيضًا تسجيلاته الصوتية لصديقه مراد، وهي تسجيلات لا تصل له، أحاديث من طرف واحد، استخدمها باسم خندقشي ليكشف الكثير عن صراعات نور الداخلية، وهي حيلة أدبية تليق برجل يقضي أغلب وقته وحيدًا بين جدران غرف تخصه ولا تخصه.

لا يمكنني التفكير في الحجرات أيضًا بمعزل عن التفكير في باسم نفسه، الذي يقضي عقوبة بالحبس المؤبد في سجن جلبوع «الكولونيالي» منذ عام 2004، كأن الحجرة قدره وبشكل لا واع فكر في حجرات مختلفة ينعزل فيها بطل الرواية، حجرات تسمح للشخصية أن تنفرد بصوتها وهواجسها، تعري هويتها، بل وتتشابك فيها الهويتان في بعض المواضع.

اتهم الاحتلال باسم بتهمة العمل الفدائي خلال انتفاضة الأقصى، وبعد ترشحه لجائزة البوكر العربية اتهمته أصوات عدة إسرائيلية بالإرهابي، ناهيكم عن تعنت السجان معه لتقويض فرحته بالجائزة وحبسه لأيام عقابًا للكتابة والخيال.

بين سطور الرواية يحسد نور صديقه مراد المحبوس في سجون الاحتلال، يخبره عبر التسجيلات الصوتية أن سجنه صغير، واضح المعالم، مكون من معادلة واضحة: «سجن، سجين، سجان» أما الحياة بالخارج فهي سجن أكبر والأمور فيه ليست بهذا الوضوح، والاشتباك معها يخلف جروحًا في الجسد، والوجود، والهوية، ترى السماء لكنك لست حرًا بالكامل.

من تفاصيل الرواية الصغيرة إلى أسئلتها التاريخية والأيدولوجية الكبرى يستدعي القارئ المشهد الفلسطيني الحالي، يقارب بين واقع يراقبه خلف الشاشات وواقع موازٍ في النص الروائي، المأساة واحدة، الأفكار ذاتها تتجول في الأذهان والعقول، ويبقى السجن الأكبر نهاية لكل الإجابات التي لم تكتمل، في النص أو الواقع.

# روايات # الأدب العربي # فلسطين

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
«لقد تم حظرك»: النساء لسن فقط في صالون التجميل
يحيى السنوار.. مات واقفاً

فن